Powered By Blogger

السبت، 7 يوليو 2012

أمل غائم



-         ممكن أقعد معاكي؟
-         آه طبعًا أتفضلي.

عرفتها على الفور، بعضهم لا يمكن أن تنساه، يبقون في الذاكرة، تتنوع الأسباب، ويحتفظ العقل بدكتاتوريته الانتقائية رغم كل شيء.
غريبة الأطوار- هذا ما سجله عقلي عنها مسبقًا.
-   تصوري إن أدوية الدكتور بتاعي اللي مات نستني كل حاجة ..الجراحة والطب .. نستني حتى إزاي أسشوّر شعري
وأمسكت بخصلة مصبوغة مهملة على جانب وجهها الذي أطّرته جذور شعر بيضاء شابت في يوم بعيد.
ارتبت قليلًا، من منا يتحدث عن مرضه هكذا، إنها صراحة وشفافية تنم عن نقاء سريرة .. استشففت أنه مرض نفسي .. ذلك الذي يقبع مستريحًا في مكان ما من الوجدان سنينًا وسنينًا .. وقد يعود في جزء من الثانية هادمًا رحلة شفاء ودموع تطول كثيرًا.. إنه فرس هائج ينثر أوراق شجر جافة ومتكلسة في مهب روح معذبة، ينشر عذابًا في كل اتجاه.

انطلق لسانها يحكي عن أزواجها وأولادها، عن حبيبها وأول من استسلمت له و"فض عذريتها" كما قالت لي باللفظ دون أن تخفض من صوتها، لها منه بنت واحدة، تزوجت بعده الضابط الليبي الذي كان القذافي سببًا في تعارفهما، والطيار الثري الذي انفق كل ما يملك حتى اضطرت هي لدفع تكاليف عرسهما كاملة بمفردها.
أخبرتني عن بكالوريوس الطب الذي درسته وهي بالمصحة مع أختها في غرفة واحدة توفيرًا للمصاريف، وعن والدها الذي كان يزجرها ويعنفها دائمًا، يطلب منها زيادة وزنها، كما يصر على ألا تتزوج إلا ابنًا من أبناء أصدقائه.
كم من الرجال تزوجت؟ هل تزوجت من الأساس؟ ربما كانوا سبعة رجال .. لا أدري .. كل ما أذكره أنه كان عددًا كبيرًا .. تنهي قصصها معهم بالطلاق .. تذكر أسمائهم الرباعية بدقة بالغة وتعود بين الحين والآخر إلى حبيبها الأول الذي تنكر لها وهجرها .. تتحدث عن علاقتها معه .. لا تكف عن سؤالي عنه. -  ترى كيف هو الآن؟ هل تزوج؟
سؤالان يلازمانها منذ الثمانينات ولا تزل تصر على سؤالي إياهما.

- ياه على أيام الكلية .. كنت في آداب عين شمس وحوّلت القاهرة .. سنة 77 كنت لسه في سنة تالتة وحبيته وصاحباتي البنات قالوا لي لازم تخسي .. قلتلهم لا بابا هيضربني .. المهم يا ستي زاد وزني من 60-61 إلى 65 .. قلت مش مشكلة أخس في الجامعة وأما أخلص أبقى أتخن تاني يعني .. عارفة؟ أنا أخويا في سلاح الجو وأصحابه عندهم ولاد ممكن يخطبوكي .. أنا هقوله يجيب واحد معاه المرة الجاية .. عايزاه خمري أو أبيض مش كده؟؟ يلا قومي أقفي وريني جسمك بقى.
خشيت أن ترى لمعة الدموع التي لم تولد بعد في عينيّ .. حرصت على وأدها في مهدها .. لن أبكي عليها أمامها .. سأكون جاحدة لو فعلت.
أخذت أبتسم كلما نظرت إلىّ ويزداد مع ابتسامي إحساس بغصة مريرة.

سمراء .. طلاء شفاهها مهزوز كثيرًا وأظافرها طويلة، متكسرة، ومطلية بلون وردي أصابه القدم .. وجهها مبتسم نصف ابتسامة وتائه في نفس الوقت .. إنجليزيتها وفرنسيتها ممتازتان توشي بهما حكاياها التي تصبها في أذني .. تصر على حصولها على الدكتوراه في اللغة العربية وتؤكد على كلامها بذكر الخطابات البديعة التي كانت ولا تزال ترسلها إلى حبيبها.

وصفت لي الآلة الكاتبة التي كانت تستخدمها في عملها كسكرتيرة في شركة كبيرة للبترول بعد حصولها على دكتوراه الطب.. سمعت خبطات الآلة الحادة ترن في أذني وأزرارها السوداء التي كانت تحرضها تحريضًا على طلاء أظافرها بأحمر أنيق.
تركت العمل بهذه الشركة وغيرها لأن الموظفين كانوا يغتابونها كثيرًا ويجبرونها على ابتلاع الطعام حتى يزيد وزنها.
شكت لي أخاها الذي مازال يضربها ويأخذ أموالها رغم أنها تشتري له مجلة "آخر ساعة" و"المصور" بانتظام بالغ .. ياه كم اختلفت أغلفتها عن تلك المشرقة الملونة في زمن آخر بعيد!!

لم تحدثت إلى أنا؟ لم جعلتني أتصورها طالبة بالجامعة لم يطل عقلها العطب بعد. لم جعلتني أتذكر أطباء الشيطان المتاجرين بالأنفس؟ أم ترى كان العطب عصيًا على أي دواء والعقل يسعى للهروب لأبعد ما يستطيع الوصول إليه .. إلى الحكايا والماضي الذي عشته اليوم معها .. في عصر كنت فيه لم أزل في عالم الغيب. هل تعاني من الزهايمر، أم تراه مرض نفسي؟
لا أهتم .. إنها روح تثير شجونًا ولحظات صدق غريبة ومقبضة .. تحكي قصصًا عن حب لم أستطع استشفاف ما إذا كان واقعيًا أم خياليًا.

-  أنا دايمًا أحب أقول الحمد لله .. إحنا المسلمين نقول الحمد لله .. الله أكبر .. لا إله إلا الله .. الحمد لله على كل حال.
ابتسمت وهي تلهج بالحمد وتنظر إلى عينيّ بتركيز بالغ ثم أكملت قصتها.

لم تكن مسخًا .. كانت تستدعي أملاً غرب عنها منذ عقود.



هناك 6 تعليقات:

Unknown يقول...

جميله جدا ياسلمى كتير كنت بسمع عن زمان الناس كانت وزمان كان لكن اكتشفت ان الشر والحقد والغل وكل الصفات السئيه فكل زمان بس نظرت الناس بتختلف فقط لا اكثر بجد رائعه تسلم ايدك

ضياء عزت يقول...

طريقة وصفك وسردك عجبتني جدا يا سلمى بجد

تسلم ايدك

حنين محمد يقول...

صباح الغاردينيا
مالذي جعلني أراها بين سطورك وأقرأها أكثر من مرة ؟
مالذي جعلني أشعر بالحنية والخوف ؟
هل هي القصة ! أم هو إبداع سردك
حقاً رائعة "
؛؛
؛
لروحك عبق الغاردينيا
كانت هنا
reemaas

Salma Hesham Fathey يقول...

شكرا جميعا :)

سأرد على كل تعليق على حدى حين العودة للقاهرة ..

تعليقاتكم تحييني :) شكرا

afnan sultan يقول...

أعجبتني وأوجعتني
أبدعت فِ السرد واختيار الحكاية
عيشتيني الجو يا سلمي
تسلم ايدك

Ahmed يقول...

جميلة يا سلمى، وكثير من مرضانا هكذا، يحتفظون بكثير من قدراتهم ومواهبهم المعرفية، بل بأحلامهم، وأمانيهم، ربما لأنك ترين مريضا نفسيا للمرة الأولى فاستهوتك، ولكن أعجبني وصفك لها في براءة الانطباع الأول الذي ضاع مني تحت ضغط العمل اليومي.
د/ أحمد الأجهوري
إخصائي الطب النفسي